إن الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ
حَقَّ تُقَاتهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} () ، {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}()، {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ
وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنوبَكُمْ وَمَن يُطعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَقدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} () ().
اللهم صل
على محمد عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون.
أما بعد: فإن
الكون مازال يشهد حوادث وفق سنن أودعها الباريء فيه منذ أن قال له الله كن فكان
بأمره ومشيئته وفقا لما تقتضيه حكمته وإرادته عزّ وجل، ومازالت السماوات والأرض تسير
وفق سننه عزّ وجلّ منذ أن خلقها الباري تعالى فقدر فيها أقواتها ومن يكون عليها
وما يكون فيها وفق سننه التي وضعها في هذا الوجود مصداقا لقوله تعالى ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ ().
ولم تتخلف
سنن الله ولم تحابي أحدا من مخلوقاته، كل وفق خلقته، منهم المجبور والمقهور على
أمره ومنهم المجبول على طاعة الله ومنهم من كلفه الله تكليفا، فالكل جعل الله له
سننا يسير عليها مصداقا لقوله عزّ من قائل ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ (). وجرت هذه السنن حتى على أفضل خلقه من الأنبياء
والمرسلين كما أخبرنا بذلك جلّ وعلا في محكم التنزيل فقال عزّ من قائل ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ
حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ () ،.
ثم إن ما يشهده
العالم من مجريات وما شهدهته الأمة الإسلامية وما ستشهده في قابل الأعوام، لم ولن
يقع صدفة ولا خبط عشواء، وإن ما وقع وحدث، وفق لسنن لا تتبدل ولا تتحول حيث قال جلّ وعلا ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ () ،
هذه السنن التي جعلها الله ﷻ في هذا الكون، فأمر القلم بكتابتها في اللوح المحفوظ،
وعلمنا إياها بالفطرة التي فطر الناس عليها، وبالشرائع التي أنزلها إلينا، فتمت
كلمات ربي على من أطاعه وحقت كلماته عزّ وجلّ على من عصاه، وما يظلم ربي أحدا. وسيستمر
حدوث هذه الوقائع وفق هذه السنن مصداقا لقوله تعالى ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ
الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَحْوِيلًا﴾ () ، ولقوله تعالى ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ().
ثم إن دراسة
سنن الله من حيث البحث عنها واستكشافها والتفقه فيها والعمل وفق مقتضياتتها واجب
ديني وشرعي كما أمر الله تعالى ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ () ، بل وضرورة تقتضيها ظروف المرحلة الراهنة من آخر
سنوات الحكم الجبري للأمة الإسلامية، والتي تستقبل المرحلة الأخيرة الموعودة من
الله تعالى، مرحلة الخلافة المهدية الراشدة الآخرة على منهاج النبوة "فَعَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ
حَدِيثَهُ، فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، فَقَالَ: يَا بَشِيرُ بْنَ
سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي
الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ
يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى
مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ
يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا
عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا
شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ
تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ»" ثُمَّ سَكَتَ، ومن رواية أخرى مسند عمر بن عبد العزيز للباغندي،
"عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ اللَّهَ بَدَأَ هَذَا الْأَمْرَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً،
ثُمَّ يَكُونُ سُلْطَانًا، وَيَكُونُ مُلْكًا، ثُمَّ يَكُونُ جَبْرِيَّةً، ثُمَّ يَكُونُ
جَائِزَةً»" ().
كما إن التعامل وفق ما تقتضيه هذه السنن مصدقا لقوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ﴾()، هو الأمل الوحيد لهداية
الأمة إلى طريقها القويم، ولإخراجها من ضنك معيشتها وهزيمتها النفسية وبعث روحها
لقيامها بواجبها الحضاري لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد بحق،
وفق شريعته السمحة الخاتمة لسابق الأديان، ولإخراجهم من ضيق الدنيا لسعة الدنيا
والآخرة، ومن ظلم السلطان وظلام حكّام الجبر إلى عدل الإسلام، وقسط حكامه المهديين
الراشدين بأمره تعالى. إن دراسة سنن الله المتعلقة بالوجود لجدير بالإهتمام
والمتابعة، وإن دراسة السنن الإلهية التي تنظم مسار تاريخ البشر، ماضيا وحاضرا ومستقبلا
التي بيّنها الله في القرآن الكريم وجاء شرحها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الصادق الأمين المبلغ عن رب العالمين في أحاديثه الشريفة الصحيحة لجدير
بالبحث والفهم من باب أولى.
بل إن توجيه الدراسة لفهم
أحداث حاضر ومستقبل أمة إسلام ، أمة الشهادة والإنذار والبشارة والبيان، في ضوء
سنن الله المبسوط ذكرها في الوحيين من الأمور المهمة جداً التي لا يجب أن يغفل
عنها عاقل مصداقا لقوله عزّ وجلّ ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا
رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ
قُبُلًا﴾ ()، هذه السنن التي ستبصرنا
وتوجهنا نحن كمؤمنين بكيفية السلوك الصحيح في مرحلتنا القادمة والأخيرة، ولأنها ستساعدنا
على فهم قواعد السير التي ستعيننا على تجاوز الفتن والبلايا التي أصابتنا والتي ستصيب
أمتنا في قابل أعوامها من مرحلتها الأخيرة وخاصة من كذب وكفر وسار ولم يعتبر كما
أخبر الله في محكم تنزيله حيث قال ﴿ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا
قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ () .
هذا وحتى نتعلم معنى
"العدة" و"الاستعداد"، ولا تقع الأمة أفرادا وجماعات في طول
الأمل والغرور والأماني الكاذبة فيحق فينا قوله تعالى ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾
() ، وهذا قبل فوات الأوان
كما أخبر الله تعالى ﴿فَلَمْ
يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ ()، وبذلك تنجو ممّا حذّرها
الله منه، وتظفر بما وعدها الله به.