الحكم في الإستعمال اللغوي:
جاء تعريف الحكم في اللغة قال عند ابن منظور في لسان
العرب() :
"الحكم: العلمُ والفقه، قال الله تعالى: (وآتيناه الحكم صبياً)، أي علما
ًوفقهاً،هذا ليحيى بن زكريا؛ وكذلك قوله: الصمتُ حكم وقليل فاعله.
الحكمُ هو القضاء وقد (حكم) بينهم يحكُم بالضم
(حُكما) و(حَكَم) له وحكم عليه. و (الحُكمْ) أيضاً الحكمة من العلم. و(الحكيم)
العالم وصاحب الحكمة. والحكيم أيضاً المتقن للأمور،وقد (حَكَمَ) منباب ظرُف أي صار
حكيماً و (أحكمه فاستحكم) أي صار (فحكماً) و (الحَكَمَ) بفتحتين لحاكم. و(حكمه) في
ماله (تحكيماً) إذا جعل إليه الحكم فيه. واحتكموا إلى الحاكم و(تحاكموا) بمعنى. و(المحاكمة)
المخاصمة إلى الحاكم" ().
الحكم في الإستعمال الإصطلاحي:
ويكشف التعريف الاصطلاحي العام لـ"الحكم"
(مجردا من نسبة أو نعت) عن "عملية إسناد" تربط بين مقدمة ونتيجة أو بين
موضوع ومحمول، فالحكم «إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا» (). ولا بد في هذا الإسناد من "سند"، وهذا
السند قد يكون شرعيا أو عقليا () ؛
فالشرعي ما يؤخذ من الشرع، وهو نوعان:
1.
حكم
شرعي متوقف على الشرع؛ بحيث لا يُدرك لولا خطابُ الشرع.
2.
حكم
شرعي متوقف على العقل كإثبات وجود الله تعالى وتوحيده.
الأول عملي فرعي، والثاني
أصلي اعتقادي ().
أما الحكم العقلي ـ في هذا التقسيم العام فلا يؤخذ من الشرع كالقول بأن الكل أكبر
من الجزء والنقيضان لا يجتمعان.
الحكم
عموما هو «إثبات أمر أو نفيه» ()، أو بعبارة أوضح هو
«عبارة عن نسبة أمر إلى أمر إيجابا أو سلبا» () ، فإما
أن يتصور معناه فقط، ولم يحكم بثبوته ولا بنفيه، فهذا الإدراك يسمى في الاصطلاح "تصورا" ، وإما أن يتصور مع ذلك
ثبوت ذلك المعنى لأمر أو نفيه عنه، فهذا الإدراك يُسمى في الاصطلاح
"تصديقا"، ويسمى أيضا "حكما".
فما يتصوره العقل يشمل التصور والتصديق، ويتحصل لنا
مفهوم عقلي، فإذا نسب هذا المفهوم إلى وجوده في نفسه، أو نسبناها إلى وجودها لأمر
آخر غيرها حصل في العقل معان هي الوجوب والامتناع والإمكان. ثم إن تصورات هذه
المعاني ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طرق الاكتساب، إلا أنها قد تعرف لمجرد التنبيه
والإخطار في البال، فيقال: الوجوب ضرورةُ الوجود أو اقتضاؤه أو إستحالة العدم، والإمتناع
ضرورة العدم أو إقتضاؤه أو إستحالة الوجود، والإمكان جواز الوجود والعدم أو عدم
ضرورتهما أو عدم اقتضاء شيء منهما.
ومفهوم
الحكم عموما بتضمنه لمعنى السند يحيلنا إلى مفهوم "الدليل"؛ إذ به تصح
عملية الإسناد في الحكم؛ فلا حكم إلا بدليل يسنده. ومعنى الدليل في الاصطلاح العام
«الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر» () ، بمعنى وجود "علاقة
لزومية" بين الدال (أو اللازم) وبين المدلول (أو الملزوم) إما لزوما كليا
عاما أو لزوم جزئي خاص، وهذه العلاقة تنقسم من جهة أنواع الدليل إلى ثلاثة أقسام ():
1.
لزوم عقلي: يكون فيه
الدليل عقليا له تعلق بمدلوله نحو تعلق الفعل بفاعله؛ إذ يلزم من وجود الفعل وجود
فاعله، كما له تعلق بالبدهيات وبالضرورات العقلية (الوجوب والإستحالة/الإمتناع
والجواز/الإمكان). ومن اللزوم العقلي تنتج الأحكام العقلية التي
هي إثبات أمر أو نفيه من غير توقف على تكرّر.
2.
لزوم سمعي شرعي:
يستفاد من طريق النطق بعد المواضعة على صدق المخبر بالرسالة؛ لذلك كان لزوما
توقيفيا من جهة توقفه على النقل من صاحب الشرع. ومن اللزوم الشرعي تنتج الأحكام
الشرعية التكليفية (الفرض والمحرم والجائز)، والأحكام الشرعية الوضعية (الشرط
والسبب والمانع)، والأحكام الشرعية المآلية (جلب المصالح ودرء المفاسد ومنع
المهالك) التي مستندها الشرع بحيث لا يمكن أن يُعلم ثبوتها أو نفيُها
إلا منه.
3.
لزوم لغوي: تفرضه
المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات والألفاظ والكتابات...
وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق.
فإثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، هو المسمى:
"حكما" ()،
فإذا استند إلى "العقل" كان عقليا وإذا كان مستنده الشرع كان شرعيا . إذ
الحكم من حيث هو هو لا تعلم له حقيقة حتى يضاف إما إلى العقل، أو إلى الشرع أو إلى
العادة ().
وبإعمال تعريفات الأحكام العقلية المنبثقة من اللزوم
العقلي والأحكام الشرعية المنبثقة من اللزوم السمعي الشرعي، يصل بنا المقال إلى ما
تضمنته هذه الدراسة من طرح جديد في إستخراج منظومة سننية على طريقة أهل الكلام
والأصول.
وتتشكل المنظومة
السننية كما هو موضح في الخطاطة مما يلي:
سنن
الله تعالى المعرفة بالأحكام العقلية المعلومة وتتصمن: السنن الواجبة والممتنعة
والممكنة، وتليها سنن الله تعالى المعرفة بالأحكام الشرعية وتقسم إلى ثلاث محاور:
الوضعية، والتكليفية والمآالية. فالسنن الوضعية تتضمن مايلي: السنن الشرطية والسببية
والمانعة، والسنن التكليفية فتتكون من: سنن الفرائض والمحرمات والجائزات، أما السنن
المآلية فتتضمن: سنن في جلب المصالح وأخرى في درء المفاسد وفي منع المهالك.
وبإعتبار
أن المجموعات الأربع يمكن جمعها مثنى مثنى فيصير لدينا تصنيفين مركبين آخرين هما
على توالي: سنن الله تعالى المعلومة وضعًا (السنن الواجبة الشرطية، الواجبة
السببية، الممكنة/الممتنعة الشرطية، الممكنة/الممتنعة السببية، الممكنة/الممتنعة المانعة)،
وسنن الله تعالى الشرعية مآلا (سنن في جلب المصالح المفروضة والجائزة، سنن في درء المفاسد
المحرمة والجائزة، وسنن في منع المهالك المحرمة).
كما
أننا سنحرر جملة هذه السنن وفق قواعد، مستعملين في ذلك مختلف الألفاظ الكلامية
الأصولية، ومستندين بمختلف السنن المتناثرة في التفاسير القرآنية والأحاديث
النبوية الشريفة الشارحة والمبينة لمختلف تلك السنن.