يعتمد
العلماء والمفسرون لكتاب الله والدارسون المهتمون بمجال السنن الإلهية في تصنيفهم
لسنن الله تعالى حسب ميولاتهم العلمية ومعارفهم الشرعية، ولا يعدّ هذا عيب بل هو
الإختصاص والتنوع الذي ينتج مفاهيم جديدة متجددة يستفيد منها الإنسان المسلم
المهتم بهذا المجال. ويقع الخلاف بين العلماء والدارسين في تصنيف السنن، كل حسب
رأيه وما وصل به إجتهاده، كما قد يقع الإختلاف بينهم على إضافة السنن إلى الله أو
إضافتها إلى غيره، وقد سبق أن فصّلنا فيه في مقال سابق، وقد يقع الإختلاف أيضا
فيما هو سنة الله وما ليس كذلك.
وفي
هذا السياق يقول الأستاذ محمد هيشور حين
قال: "من الضروري ونحن نتعرض لقضية السنن الإلهية أن نضع فروقا واضحة بين
أمور يشتبه على بعض الناس أنها من السنن، مثل المقاصد العامة، والقواعد الكلية،
والقيم: العدل والإحسان والجمال، فكل هذه قيم وليست سننا، ومثل المبادئ العامة
كتقرير المسؤولية الفردية أو العلم للمؤاخذة ﴿وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ
نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ () ، أو السعي ﴿وَأَن
لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ () ، أو الأثر الفوري
للقوانين ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ()، وهذه كلها قواعد ومبادئ
عامة يستفيد منها أهل العلوم الاجتماعية والإنسانية ولكنها ليست من السنن. كما يجب
التفرقة بين السنة وبين كل من الوعد والوعيد، أو الحقائق، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾()، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ () ، فكل هذه ليست من السنن
ولكن من الحقائق الإيمانية." ().
والحق
أن هذا الإعتراض ليس على إطلاقه، وفيه كثير مقال إذا إعتبرنا تصنيفا جديدا للسنن
الله تعالى بنظرة أهل الكلام والأصول، وهي
نظرة معتبرة من عدة نواح:
أولا:
إضافة هذه السنن إلى الله تعالى، وهذا قد سبق الإشارة إليه سابقا، مما يتيح المجال
إلى النظرة الكلامية في الموضوع، ولقد أضاف هذا العلم إضافة نوعية عند المتقدمين
في إثبات وجود الله تعالى لمن قصر فهمه وخاب نظره، كما إنتهج المتقدمون من
المتكلمين في إثبات ما يجب إثباته للباري عَزَّ وَجَلَّ وتنزيهه عن كل صفة لا تثبت
في حقه تعالى.
ثانيا:
بالنظر إلى اعتبار سنن الله تعالى إحدى المعارف الإلهية المندرجة تحت علم العقائد،
هذا العلم الذي لا تخلو كتبه من الإصطلاحات الكلامية والأحكام العقلية المعلومة
ابتداءا كالواجب والممكن والمستحيل والتي استعملها المتكلمون من قبل في إثبات ما
هو واجب وممكن وممتنع في حقه تعالى، ونحن نستعملها في هذه الدراسة في إثبات ما
جعله الله واجبا وممكنا وممتنعا في حق خلقه، وبه نخلص في هذه الدراسة إلى سنن الله
الواجبة وسنن الله الممكنة وسنن الله الممتنعة.
وليس
بدعا ما نقره من إستعمال هذه المصطلحات الكلامية وقد سبقني من هو أفضل وأعلم مني
مكانة ورفعة من العلماء، فلقد استعمل الإمام البيضاوي كما نقل في حاشية الشهاب علي
تفسيره ()ذات المصطلاحات الكلامية فنجده يقول: أي
إنه تعالى بمقتضى حكمته قضى أنّ إيمان اليأس لا يقبل، وقد تقدم فيه كلام فامتناع
قبوله إمتناع عاديّ كما يشير إليه قوله سنة الله لكنه قيل عليه إنه لا يناسبه
تفسيره بل يصح ويستقيم.
ثالثا:
إن ما نقره في هذه الدراسة أن سنن الله تعالى معلومة فطرة ونظر واستدلالا، هذا ما يجعلها تستمد تعريفاتها من علم الأصول،
شأنها في ذلك شأن الأحكام الشرعية كالفرض والمحرم والجائز، والأحكام الوضعية
كالشرط والسبب والمانع، وهذا ما يقودنا إلى استعمال هذه المصطلاحات في بيان تصنيف سنن الله إلى شرطية وسببية ومانعة، وإلى سنن مفروضة وسنن ممنوعة وسنن
جائزة.
ولقد سبق إستعمال هذه المصطلحات
عند جمهرة المفسرين، فنسرد على سبيل المثال ما أورده الإمام برهان
الدين البقاعي في تفسيره () حيث يقول: ولما
كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها، قال مسبباً عن ذلك: {فهل ينظرون} أي ينتظرون،
...، مع العلم بأن عادته مستمرة، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه
وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة
إليه عدم. ويورد في موضع آخر () فيقول: نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آية، وهو قصة زكريا في
ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، وقصة عيسى في كيونته بغير أب، ليعلم أن الأسباب
في الحقيقة لا يتوقف عليها شيء من مسبباتها إلا بحسب سنة الله تعالى، وإنما الفعل
له سبحانه عزَّ وَجَلَّ لا بسبب.
ونقول
إن بعض ما إعتبره الأستاذ محمد هيشور من الحقائق الإيمانية جعله الله واجبا
أوممنتعا أو ممكنا، ومن الحقائق ما هو خاضع لشروط يجيب إستفاؤها وأسباب يجب توفرها
ولموانع يجب رفعها، ومنها أيضا ما هو تركيب لهذه مع تلك ، فتكون بهذا المنطلق
خاضعة للسنن التي وضعها الله عَزَّ وَجَلَّ، ونسوق ما ساقه الأستاذ كمثال في تقرير
المسؤولية الفردية أو العلم للمؤاخذة مستدلا بالآية من قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ ()، فهي بالنظر السنني
الكلامي الأصولي من السنن التي جعلها الله ممتنعة لإتنتفاء الشرط الذي علقه الله
عليها، إذ جعل الله إستحقاق العذاب مشروط ببعثة الرسل. وما ساقه أيضا في قوله
تعالى ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾() من السنن الواجبة الشرطية
فأوجب الله إستجابة الدعاء على نفسه بشرط قصده والتوجه إليه بالدعاء. أما إستدلال
الأستاذ بقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾()، فهذا ما لا سنن فيه وهو
من الحقائق الإيمانيية والمعارف الإلهية المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته، وهو
ليس موضوع السنن ولا مجالها.
وفي
نفس المقال يقول شيخ الإسلام إبن تيمية " والضابط في المسألة أن التفريق بين
ما هو من صميم السنن وما ليس كذلك سهل ميسور طالما استحضرنا انصراف السنة إلى معنى
القانون على النحو الذي سبق بيانه، إذ الملحظ الدقيق الذي ينبغي التنبه إليه هو أن
الحديث عن السنة يعني الحديث عن ترابط حتمي لمجموعة من الشروط بمجموعة من النتائج،
بحيث أن توفر نفس الشروط يؤدي إلى تحقق نفس النتائج، لأن السنة "تتضمن أن
يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول" ().
ويشير
شيخ الإسلام في مقاله إلى ما اعتبرناه من تقسيم لسنن الله تعالى بنظرة أصولية،
وهذا التقسيم إنما يكون إستمداده من علم أصول الفقه، ويستعمل الأستاذ محمد رشيد
رضا هذه التقسيمات في تفسير المنار مما يؤكد لنا إعتبار هذا المذهب، في
تفسير قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾()
حيث يقول: جرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ بِأَنْ تُعَلَّمَ أَحْكَامُهُ
لِلنَّاسِ وَتُنَفَّذَ فِيهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ يَصْطَفِيهِمْ
لِيَكُونُوا خُلَفَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَظْهَرَ
أَحْكَامَ اللهِ وَسُنَنَهُ الْوَضْعِيَّةَ (أَيِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ
الشَّرْعَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ) كَذَلِكَ أَظْهَرَ حِكَمَهُ وَسُنَنَهُ
الْخَلْقِيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخِلَافَةِ
عَامًّا فِي كُلِّ مَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ الْإِنْسَانَ عَلَى سَائِرِ
الْمَخْلُوقَاتِ، نَطَقَ الْوَحْيُ وَدَلَّ الْعِيَانُ وَالِاخْتِيَارُ عَلَى
أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْعَالَمَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَخَصَّ
كُلَّ نَوْعٍ غَيْرَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِشَيْءٍ مَحْدُودٍ مُعَيَّنٍ لَا
يَتَعَدَّاهُ.