قبل الخوض في الكلام على سنن الله تعالى وجب علينا أن
نقف على حدود التعريف الكلامي الأصولي الذي أوردناه في هذه الدراسة. وإنطلاقا من
التعريف ذاته، نستخلص جملة من الأحكام العقلية والشرعية (التكليفية، الوضعية،
المآلية) والتي سيأتي بيانها في موضعها، وهذا من خلال تحديد المفاهيم الوارد ذكرها
في التعريف. قد سبق تعريف سنة أو سنن الله تعالى على أنّها:
" سيرةُ اللهِ عَزَّ وَجلَّ المُعْتَادَةُ في خَلْقِهِ
وُجُودًا وَعَدَمًا، التِي قَدْ خَلَتْ من قَبْلُ ومَضَتْ، المَعْرُوفَةُ فِطْرَةً
وَالمُكْتَسَبَةُ بِالنّظّرِ والاِسْتِدْلاَلِ، والتي يَلْزَمُ مِنْ تَبْدِيلِهَا
أَوْ تَحْوِيلِهَا مُحَالٌ".
أولا: قولنا "سيرةُ
اللهِ عَزَّ وَجلَّ": قيد أخرج باقي السير المنسوبة للخلائق حسنة كانت أو
قبيحة، وأخرجنا بهذا القيد أيضا سير الأنبياء والرسل، كما أخرج هذا القيد سيرة خير
البشر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونشير
أن إخراج السيرة النبوية () من التعريف لا يعني البته
الإستغناء عنها في معرفة سنن الله تعالى، إذ تعدّ سيرته وسنته صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصدر الأساسي الشارح لسنن الله تعالى المبسوط ذكرها في
القرآن الكريم، ولقد احتوت السيرة النبوية على مختلف السنن المتعلقة بالمهتدين من
أهل الإيمان وبسنن الأنبياء وأتباعهم متجسدة في شخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأهله عليهم السلام وأتباعه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن
المهتدين ممن آمن به ولم يره. كما احتوت سنن الفئة الضالة من أهل الكفر، فجاء القرآن الكريم واصفا سنن المكذبين
من أهل الكتاب، كما ذكر سنن أهل النفاق الماكرين، وكل هذا قد بينه الله سبحانه في
كتابه من خلال أحداث السيرة المبسوط ذكرها في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية
الشريفة. فسيرة النبي وسنته لا غنى عنها في معرفة وشرح سنن الله تعالى.
ثم
إنّ إضافة لفظ السيرة إلى الله عَزَّ وَجلَّ تتنزهها عن صفات النقص أو القبح وكل
صفة لا تليق في ذاته عَزَّ وَجلَّ. وسيرة الله تتضمن صفات الكمال في تصرفاته عَزَّ
وَجلَّ على وجه لا نقص فيه بأي حال من
الأحوال مصداقا لقوله تعالى ﴿لِلَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ
الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ()، والقاعدة العامة في باب الإلهيات المندرجة ضمنها سنن
الله تعالى، والتي تعدّ روح علم الكلام وعمدة أهل التوحيد توضح هذا المعنى "الكمالاتِ
كلَّها واجبة، والنقائص كلها مستحيلة [... وأما الجائز في حقه تعالى فـ] هو التصرف
في العالم بالإيجاد والإعدام، والإمداد والإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال،
والتقريب والإبعاد، والإشقاء والإسعاد، لأن الكل ملكه، وهو فعال ما يشاء، لا يجب
عليه شيء منه ولا يمتنع، إلا ما اختار الله تعالى أن يقع" () .
وتتضمن أيضا كلماته التامات وأفعاله النافذة في
خلقه عَزَّ وَجلَّ مصداقا لقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ
فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ
مِن نَّبَإِ
الْمُرْسَلِينَ﴾ () وفق مقتضى كل إسم من
أسمائه وكل صفة من صفاته عَزَّ وَجلَّ.
ثانيا: قولنا "المُعْتَادَةُ في خَلْقِهِ": أفاد قيد
"المُعْتَادَةُ" تكرر واستمرار
وتوقف سيرة الله تعالى في سيرانها وجريانها حسب العادة (). فسنن الله تعالى مثلا تسري
على الكافر لما هو عليه من حالة الكفر التي تلبس بها، وتبقى جارية مستمرة ومتكررة
ما دام على كفره لا تتبدل ولا تتحول، فإذا ولج الإيمان قلبه توفق سريان سنن الكفر
عليه وسرت عليه سنن الله تعالى في المؤمنين. والاعتياد في السيران والجريان يلزم
منه معيد وهو الله عَزَّ وَجلَّ لأنّه هو المعيد الفعّال لما يريد جلّ وعلا. وهاء
الضمير في لفظة "خَلْقِهِ"
عائد على الله عَزَّ وَجلَّ، وأفاد هذا القيد تعيّن سيرة الله تعالى المعتادة في
جريانها على كل الخلائق في عالم الغيب والشهادة بلا إستثناء، المجبورون والمجبولون
والمخيّرون والمسيّرون، كل حسب خلقته التي خلقه الله عليها.
ثالثا: قولنا "وُجُودًا وَعَدَمًا": أفاد هذا القيد
إختصاص بعض سنن الله تعالى على بعض خلقه دون آخرين ()، ووجودا
وعدما، وخاصة منها السنن الوجودية الأربع. فنجد مثلا أنّ مخلوقات الله المجبورة في
أفعالها تنعدم في حقها جريان سنتي الرزق والهدى، وتبقى تسري عليها سنتي الأجل
والعمل وجودا وفق إرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره. كما تنعدم سنة الرزق على خلق
الله المجبولين على طاعته من ملائكته عليهم السلام، أما المسيّرين في أفعالهم من
مخلوقات الله غير العاقلة المسخرة للإنس والجن فإن سنة الهدى معدومة في حقها، ويبقى
جريان جميع سنن الله وجودا على المخاطبين بخطاب التكليف.
كما
يفيد هذا القيد ما ذكر سابقا من وجود السنن وانعدامها وفق ما وضعه الله من أسباب
وشروط وموانع. فالضالين من الخلق مثلا، تسري عليهم سنن الله تعالى في المكذبين والماكرين والكافرين وجودا، وتنعدم في حقهم سنن الله تعالى في المهتدين لأن
ضلالتهم عن الحق مانع من سريان سنن الله في المهتدين عليهم حال تلبسهم بالضلال،
فإذا إنتقلوا من الضلال إلى الهدى، كان الهدى سببا في جريان عليهم سنن الله تعالى
في عباده المؤمنين، وامتنعت عنهم سنن أهل الضلال، كما تجري عليهم سنن الله المعرفة
للفرائض والمحرمات والجائزات، وانكشفت لهم سنن الله في جلب مصالحهم ودرء المفاسد
عنهم ومنع ما يهلكم، فإذا عاودوا الكفر عاودتهم سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا
تتحول.
رابعا: قولنا " التِي قَدْ خَلَتْ من قَبْلُ ومَضَتْ
": أفاد قيد "خَلَتْ"
لزوم الإعتبار الزمني لسيرة الله تعالى المعتادة في خلقه وجودا وعدما من حيث وجوب
قدمها في الحدوث، ووجوب إستمرارها في الحدوث إلى ما شاء الله أن تكون، كما أفاد
وجوب تعيّنها على كل حادث في هذا الوجود، وأفاد قيد "مَضَتْ" إعتبار وجوب حتمية
نفاذها وفق مقتضيات أسمائه وصفاته جلّ وعلا. ولقد استعملنا الوصف الشرعي () المذكور في القرآن الكريم
حفاظا منا على هذه الأوصاف الكلية التي وردت في كتاب الله تعالى في وصف السنن في
الآيات الأحد عشر المتقدم ذكرها من قبل.
خامسا: قولنا "المَعْرُوفَةُ فِطْرَةً":
أدخل قيد "المَعْرُوفَةُ"
() ما عرف إبتداءا بالفطرة () التي فطر الله تعالى
الناس عليها من سير الله المعتادة في خلقه الوجودية كالأجل والعمل والرزق والهدى،
وهذه السنن الأربعة السارية على الخلق لا يحتاج لمعرفتها إلى إمعان نظر أو الاستدلال
عليها، فمعرفتها حاصلة فطرة من الله تعالى. حتى إنّ المجبوربن من الخلق فطروا
عليها بدليل قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ
إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ().
والمراد بذكر السماوات والأرض العالم () كله كما أورده الإمام
القرطبي في تفسيره().
سادسا: قولنا " وَالمُكْتَسَبَةُ بِالنّظّرِ() والاِسْتِدْلاَلِ () ": قيد أدخل السنن
المعرفة بالأحكام العقلية الثلاثة، وهي سنن الوجوب والإمكان والإمتناع، وليس
المقام هنا عما هو واجب وممكن ومستحيل في ذات الله (وهي من إختصاص علم التوحيد
والعقائد)، وإنما المقال عما ما أوجبه الله تعالى على نفسه لخلقه وما جعله ممكنا
لهم وممتنعا عنهم. وأدخل هذا القيد أيضا السنن المعرفة بالأحكام الشرعية التكليفية
على سبيل الإقتضاء والتخيير وهي سنن المتعلقة بالفرائض والمحرمات والجائزات، كذا السنن
الوضعية التي جعلها الشارع الحكيم سننا قائمة مع وجود أسبابها واستفاء شروطها
وإنتفاء موانعها. أضف إليها السنن المآلية التي جعلها الشارع سننا جالبة للمصالح
ودافعة للمفاسد ومانعة للمهالك.
سابعا: قولنا " والتي يَلْزَمُ مِنْ
تَبْدِيلِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا مُحَالٌ ": أفاد هذا
القيد إمتناع طروء صفتا التبديل والتحويل
على سنن الله، أي أنّ حصول تبديل بتعيّن سنّة مكان غيرها أو حصول تحويل بتعيّن سنّة في غير زمانها أو على
أحد غير من تعيّنت عليه ممتنع شرعا. ومن
خلال إستقراء آيات الله في القرآن الكريم، التي احتوت لفظتا سنة وسنن، لم نجد ما
يلمح إلى صفتا الثبات وعدم طروء التغير على سنن الله تعالى، فهاتان الصفتان غير
لازمتان في سنن الله تعالى، لأن سنن الله قد لا تثبت بل وقد تتغير بتغير
الأسباب والشروط والموانع، وهي كالحالة تغير الإنسان من الكفر إلى الإيمان أو
العكس، فبتغير حالته تتغير تعين سنن الله عليه مصداقا لقوله تعالى ﴿
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ (). وهذا
ما ستبينه هذه الدراسة في عمومها. كما نلاحظ أن الوصف القرآني أتى مبينا لامتناع
صفتا التحويل والتبديل دون صفة التغيير لأنها ليست صفة ملازمة لسنن الله تعالى.