من خلال النظر في الآيات التي احتوت على كلمتي سنة وسنن،
يتضح لنا أن الخطاب السنني الوارد فيها
متخصص بإختصاص ما خص به الخالق تعالى مخلوقاته. وبإستعمال عملية السبر والتقسيم أي
حصر الأوصاف المعتبرة في الأصل وإلغاء ما عاداها من الأوصاف، يتضح لنا أن سنن الله
تعالى يمكن تصنيفها من حيث ورودها في القرآن الكريم وباعتبار من تعيّنت عليه إلى
أحد عشر إختصاص، حيث سنوردها في هذا المقال من الأعم إلى الأخص، كما أننا سنلخصها
إن شاء الله في خطاطة بيانية توضيحية:
أولا: سنن الله في الوجود
قال تعالى ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (). وردت {لِسُنَّةِ اللَّهِ} في هذه الآية لفظة مركبة إضافية بصيغة مطلقة من غير قيد يقيدها، أو تخصيص يخصصها، كما أنه لم يرد لها
تحديد على مخصوص معين {الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ}، فهي من هذا الاعتبار تشمل كل السنن التي جعلها الله
ووضعها في هذا الوجود، وتخص كل المخلوقات التي خلقها الله في هذا الوجود كل حسب
خلقته.
ثانيا: سنة الله في الخلائق (ذوات الأرواح)
قال تعالى ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (). وردت "سنة الله"
في هذه الآية لفظة مركبة إضافية مقيدة بما بعدها من الألفاظ، وهذا التقيد ملاحظ في قوله تعالى{فِي الَّذِينَ خَلَوْا
مِن قَبْلُ} وهو منقسم إلى جزئين إثنين، فالجزء الأول منه يتمثل {فِي الَّذِينَ}
حيث إستثني بهذا القيد كل المخلوقات المجبورة كالقلم واللوح والعرش،
وكالسماوات والأرض والجبال والشمس والقمر، أما الجزء الثاني {خَلَوْا مِن قَبْلُ} فقد جعل الخطاب السنني ينحصر في من خلى من قبل من الخلائق والأمم العاقلة وغير
العاقلة على حد سواء. كما يوجد إشتراك بين الخلائق غير العاقلة مع سواها من الخلق في سنن الأجل والعمل، مصداقا لقوله
تعالى ﴿وَمَا مِن
دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُون﴾ (). غير أن خطاب التكليف
ليس موجه لهذه الخلائق. وعليه يكون إختصاص الخطاب السنني في هذه الآية متعلق بكل الخلائق
ذات الأرواح ، المجبولة منها على طاعة الله والمكلفة وغير المكلفة.
ثالثا: سنة الله في المكلفين (الإنس والجن)
قال تعالى ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا
سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾
() . وردت لفظة " سُنَّتَ اللَّهِ " في هذه الآية مقيدة بما بعدها من ألفاظ، وهذا التقيد ورد بعدها
مباشرة متمثلا في قوله تعالى {الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}، فأفاد هذا القيد
إختصاص سنن الله تعالى في هذه الآية كل أصناف العباد من الإنس والجن والملائكة والمخلوقات
غير العاقلة مصداقا لقوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ () ، ولقوله تعالى ﴿مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ()، ومصداقا لقوله تعالى ﴿وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾().
لكن إبتداء الآية {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ونهايتها{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} قيدا وحصرا مفهوم العباد، فاستثني بهذا الحصر الملائكة الأبرار من هذا الخطاب كونهم خلق جبلهم الله عَزَّ وَجَلَّ على
طاعته وعبادته فالكفر منهم ممتنع عقلا وشرعا، كما إستثنى هذا الخطاب السنني الخلائق
غير العاقلة كون الخطاب موجه للعاقلين دون غيرهم، فاقتصر الخطاب السنني في الآية على صنفين من عباد الله المكلفين ألا وهما
الإنس والجن.
رابعا: سنة الله في المستخلفين (الإنس)
قال تعالى ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ
وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذَابُ قُبُلًا﴾ (). وردت لفظة {سُنَّةُ} في الآية مقترنة بـلفظة {الْأَوَّلِينَ}، فأفاد هذ الإقتران توجيه الخطاب السنني للإنس والجن على حد سواء. كما أفاد
القيد الذي ورد في بداية الآية في قوله تعالى{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} توجيه الخطاب إلى جنس الإنس دون غيرهم من الخلق، فإختص بذلك هذا الخطاب
السنني بجنس مخصوص معروف ألا وهو الإنس، والذي يعتبر خليفة الله في الأرض مصداقا
لقوله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (). وعليه يكون إختصاص
الخطاب السنني في هذه الآية متعلق بالخلائق المكلفة وغير المكلفة لا غير.
خامسا: سنة الله في المهتدين
قال تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (). وردت لفظة {سُنَنَ} في هذه الآية نكرة لإسم
جنس في سياق الاثبات يقصد بها جمع لفظ "سنة"، فهي بهذا السياق تفيد
الإطلاق والعموم. لكن الجملة التي أتت بعدها {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} جعلت اللفظة مقيدة، وخصت
تعلق الخطاب السنني على من كان له السبق
في الخلق من مخلوقات
الله تعالى العاقلة وغير العاقلة. وتأتي الإشارة في بداية الآية {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} وفي أواخرها من قوله تعالى {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} لتوضح إلى أن هذه السنن إنما وضعها الله وجعلها للبيان والإهتداء
والتوبة، لبيان الحلال
والحرام والشبهات من جهة، وللإهتداء إلى المصالح والمفاسد والمهالك من جهة أخرى. فبهذه القيود يتخصص الخطاب السنني في الآية لصنف العاقل
من المكلفين من الإنس والجن.
سادسا: سنة الله في النبيئين
قال تعالى ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ
لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا
مَّقْدُورًا﴾ () . وردت {سُنَّةَ اللَّهِ} في الآية لفظة مركبة إضافية مقيدة بما قبلها وما بعدها من الألفاظ. فجاء القيد الذي بعدها مباشرة {فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} ليجعل خطاب الآية منحصرا على من خلى من قبل من الخلائق والأمم العاقلة وغير
العاقلة على حد سواء، وسبق هذا القيد قوله تعالى {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ}، ليدلّ دلالة واضحة على تخصيص الخطاب
السنني في الآية للأنبياء دون غيرهم من عباد الله تعالى.
سابعا: سنة الله في المرسلين
قال تعالى ﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا
وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ () . وردت لفظة {سُنَّةَ} مفردة نكرة فأفادت بسياقها هذا الإطلاق والعموم، لكن ورود
الجملة التي بعدها خصصت اللفظة تخصيصا عينيا على صنف محدد ومعين وهم الرسل في قوله تعالى {مَن
قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا}، وعليه فدلالة الخطاب السنني في الآية واضح على إختصاصه للمرسلين من عباد
الله تعالى.
ثامنا: سنة الله في الضالين
قال تعالى ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ () . وردت لفظة {سُنَّةُ} في الآية مقترنة بـلفظة {الْأَوَّلِينَ}، فأفاد هذ الإقتران
بتوجيه الخطاب السنني للإنس والجن على حد سواء، كما أفادت اللفظة في
سياقها التركيبي {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} الإطلاق، فاشتملت على كل سنة متعلقة بالأولين دون
تخصيص سنة على سنة. ثم تأتي الدلالة الواضحة في بداية الآية {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} لتخصّ الذين ضلوا عن
طريق الإيمان والهداية، وبهذا الاعتبار فالآية
تدلّ على إختصاص الخطاب السنني فيها بأهل الشقاء من الضالين من الإنس والجنة
أجمعين.
تاسعا: سنة الله في المكذبين
قال تعالى ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ
سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (). وردت لفظة {سُنَنٌ} نكرة لإسم جنس في سياق
الاثبات يقصد بها جمع لفظ "سنة"، فهي بهذا السياق تفيد الإطلاق والعموم. لكن الجملة التي تلت اللفظة {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا} دلّت على أن الخطاب السنني موجه لأهل النظر والإستدلال
الذي لا يتأتى إلا للعاقلين من الخلق، ثم أشارت نهاية الآية في قوله تعالى {عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} على إختصاص الآية بصنف مخصوص ألا وهم المكذبين من أهل
الإلحاد. وبهذا الاعتبار فالآية تدلّ على إختصاص الخطاب السنني في الآية بسنن أهل
الشقاء من الضالين وبالتحديد أهل الإلحاد المكذبين من فريقي الإنس والجن.
عاشىرا: سنة الله في الكافرين
قال تعالى ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن
يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ
الْأَوَّلِينَ﴾ (). وردت لفظة وردت لفظة {سُنَّتُ} في الآية مقترنة بـلفظة {الْأَوَّلِينَ}، فأفاد هذ الإقتران تعلق الخطاب بالسنن الخاصة بالإنس والجن لا غير. كما أتت
اللفظة مركبة تركيبا إضافيا {سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} مطلقة بلا قيد، فاشتملت كل السنن المتعلقة بالأولين
دون تخصيص يذكر. ثم تأتي الدلالة الواضحة الجلية في بداية الآية
في قوله تعالى {قُل لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا} على توجيه الخطاب للكافرين على وجه مخصوص دون غيرهم، وبهذا الاعتبار فالآية دلّت على إختصاص الخطاب السنني لأهل الكفر والشرك من
الفئة الضالة عن الهدى من الإنس والجن.
حادي عشىر: سنة الله في الماكرين
قال تعالى ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ
فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾
().وردت لفظة وردت لفظة {سُنَّتَ} في الآية مقترنة بـلفظة {الْأَوَّلِينَ}، فأفاد هذ الإقتران تعلق الخطاب بالسنن الخاصة بالإنس والجن لا غير. كما أفادت اللفظة في سياقها التركيبي {سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} على إطلاقها بلا قيد. وأشار صدر الآية في قوله تعالى {وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} إلى صنف مخصوص من الإنس والجن ألا وهم الماكرين بالسوء من أهل الخداع، ثم أتت صفة الإستكبار التي وردت في
بداية الآية من قوله تعالى {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}
لتفيد حصرا في هذا الصنف والتي لا توجد إلا عند المعاندين من أهل النفاق. وعليه فإن الآية تدلّ على إختصاص خطابها السنني لأهل النفاق من الفئة
الضالة من المكلفين إنسا وجنا.